إِبّان الحرب الأهليّة التي شهدها لبنان الشقيق كان المواطن اللّبناني يضطرّ لحمل عددٍ كبيرٍ من الهويّات الشّخصيّة في جيبهِ بعدد ميليشيا الأَحزاب والحركات والأَطراف السّياسية المُتحاربة، ليتمكَّن من المرور والعبور من السّيطرات الأَمنيّة التّابعة لها والمنتشرة كل (١٠٠) متر أَو رُبما أَقلَّ من ذلك!، فتراهُ يسأَل عن هويّة السّيطرة الأَمنيّة وانتماءها (الميليشياوي) قبل أَن يصل اليها، ليهيِّئ الهويَّة المطلوبة للعبور! ويا ويلهُ ويا سواد ليلهُ اذا أَخطأَ في تقديم الهويَّة الصّحيحة في نقطة التّفتيش الصّحيحة! اذ سيختفي أَثرهُ من على وجهِ الأَرْضِ من دون أَن يعلمَ عن مصيرهِ شيءٌ أَحد من أَصدقائهِ وأَقاربهِ!.
لقد باتَ الوضعُ في الْعِراقِ وللأَسف الشّديد يشبه الى حدٍّ بعيدٍ حال لبنان الشّقيق في تلك الحُقبة الزَّمنيّة، ولكن على مستوى الولاء وليس على مستوى نُقاط التّفتيش! فلقد تقسَّم الولاءُ في البلد بشَكلٍ أميبيٍّ مُرعب، تضطرّ، اذا اردتَ أَن تسلم، أَن تحملَ في جُعبتكَ كلّ الولاءات الدّينية والمذهبيّة والإثنيّة والعشائريّة والحزبيّة والمرجعيّة والى غير ذلك لتُبرزَ منها ما ينسجم مع ولاءات السّائل اذا سأَلك والرَّفيق اذا رافقك في طريقِك والطّارق اذا التقيتهُ صُدفةً في السّوق والأَعضاء اذا اجتمعت معهُم في مجموعةٍ ما على وسائل التّواصل الاجتماعي! ويا ويلكَ ويا سواد ليلكَ اذا غفلتَ!.
في حالةِ لبنان الشّقيق فانَّ الامرَ ممكنٌ، على اعتبار أَنّ من السّهولة بمكان أَن يتقمّص المواطن عدَّة [هويّات جيبيّة] لا تُغيّر من واقعهِ شيئاً! فكما قيل فانّ الهويّة للتّعريف بالشّخص وليس بالشّخصيّة! كما انّ تعدُّد الهويّات ليس دليلاً على النّفاق وازدواج الشَّخصيّة! فحالُها حال من يحمل أَكثر من جنسيّة واحدة.
أَمّا في الحالة العراقيّة! فانَّ الامرَ يختلفُ جذريّاً، اذ انّ من الصعوبة جداً بمكان ان يحمل المواطن عدَّة هويّات (فكريّة) وعدّة إِنتماءات وولاءات في آنٍ واحِدٍ خاصَّةً اذا كان الآخرون يعتبرونها متناقضةً!.
فهل يُمْكِنُ ذَلِكَ؟!.
نعم، فالبعضُ من النّاسِ مستعدٌ لأَن يُغيِّر هويّتهُ وانتماءهُ حتّى {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}! أَوَلم نرهُم يوميّاً في الفضائيّات كخُبراء في كلِّ شَيْءٍ وهم يتحدَّثون لكلِّ فضائيّة بِلُغتِها وانتماءاتِها وما تشتهيه نفسها! فهم قبل كلِّ شيء خُبراء في إِنتماءاتِها ولذلك لا يجِدوا مشكلةً في التلوُّن والتقلُّب!.
في نَفْسِ الوقت، فانَّ هناك من النّاسِ مَن لو تقتلهُ أَو تعطيه كُلَّ أَموالِ الدُّنيا لا يُغيِّر ولا يبدِّل جلدهُ ولونهُ وهويَّتهُ الفكريّة وإِنتماءاتهِ الحقيقيّة! كونهُ مبدئيّاً صاحب موقف لم يتعوَّد على تغيير جلدهِ كالحيَّة الرَّقطاء كلّ ستّة أَشهر مثلاً!.
إِنَّ أَصحاب النّوع الاوّل لا يعيشونَ أَيّة مُشكلة فهم على استعدادٍ للتلوّن! والمجتمع، من جانبهِ، على استعدادٍ، والحمدُ لله، لقبولِ هذه النّماذج بل انّهُ يُساعدُ على نموِّ هذه الشّريحة من الكُتّاب والباحثين والخُبراء!.
أَمّا النّوع الثّاني فيعيشُ مشكلةً عويصةً وتحدٍّ كبير جدّاً، فهو عندما يكتب رأياً يجد أمامهُ حشداً من الخطوط الحمراء التي يُفترض عليه ان لا يتجاوزها اذا أرادَ أَن يَسلم، وهي الخطوط التي ترسِمها كلّ جماعة لأنصارها! فهل يستسلم لها؟! أَم ماذا؟!.
هل يستسلم فيتلوَّن كما يتلوَّن الآخرون؟!.
حسب خبرتي فلقد اكتشفتُ انّ التلوُّن والنِّفاق والتملُّق والوصوليَّة قدرة خاصَّةً لا يقدر على التسلُّح بها أَيّاً كان! كما أَنّ المبدئيّة والثَّبات والاستقامة هي الأُخرى قُدُرات ليس بامكانِ كلّ مَن تمنّاها أَن يتسلَّح بها!.
على الجميع أَن يضعَ نُصب عينَيهِ ويتذكَّر جيّداً الحقائق التّالية؛
١/ ليست كلّ الأَقلام للبيع، كما انّها ليست كلَّها تحت الطّلب! ولذلك ينبغي أَن يعرف الجميع حدودهُ عندما يقرأ لأقلامٍ خاصَّةً اذا كانت معروفة بنزاهتِها وثباتِها وخبرتِها وتاريخها النَّظيف الذي لم يجد أَحدٌ فيه ما يبتزَّها بهِ!.
٢/ ليست كلّ الأَقلام تستسلم للتّهديدات لتُغيِّر إِتّجاه بوصلتها وولاءاتها وقناعاتها! وليست كلَّها تخاف فتتوقَّف عن النَّقد مثلاً أَو فضح الفاسدين والفاشلينَ!.
٣/ ليست كلّ الأَقلام مُستعدَّة لحملِ أَكثر من هويَّة لترضية الجميع! فاذا كان البعضُ يكتب بأَقلامٍ ملوَّنة او يكتب بقلمِ الرّصاص لِيمحو ويُضيف حسب الحاجة والمصلحة! فلا يعني ذلك أَنَّ السّاحةِ خُليت من نقيضهِم!.
٤/ أَمّا الأَقلام، فبرأيي أَنّ أفضل إِنتماء يُجنِّبها المزالق ولا يجبرها على التّراجع هو الانتماء الوطني، فليكن إِنتماءها للمواطن وصغوها لأَنينهِ ومعاناتهِ وتطلُّعاتهِ! فالقلمُ رسالةٌ لا ينبغي التَّفريط بها أَو التساهل معها!.
وأَمّا المسؤولون وأَبواقهم والعُجول وذيولهُم فليبلِّطوا البحر! فماذا بعد رِضا الله تعالى والضَّمير الحيّ والوقوف الى جانب المواطن والانتماء الوطني من شَيْءٍ يُمكن أَن يقدِّمهُ لنا الفاسدون والفاشِلون والإرهابيّون من وِسامٍ؟!.
يُذكِّرُني هؤلاء بالأُسطورة اليونانيّة التي تحكي قصّة [بروقرست] الّلصّ وقاطع الطَّريق الذي كان يضع ضحاياهُ في صُندوقٍ، واذا لم يكن الصُّندوق يتَّسع للجثَّة عمدَ الى قطعِ أَرجلها لتصبح مُطابقةً للصُّندوق! إنَّهم يُحاولون فرض ولاءاتهِم على الأَقلام الحرَّة! لتتطابق مع أجنداتهِم! والّا عمدوا الى تشويهِ الأَفكار وبترِها واغتيالِ صاحبِها سياسيّاً على الأَقلّ الى أَن تحين الفُرصة لاستخدامِ كاتمِ الصَّوت!.
لكلٍّ صاحبِ تابوتٍ أَفكارهُ وولاءاتهُ! فامّاأَان ينامَ الجميعُ فيهِ او تُقطعَ أَرجلهُم! فكيفَ نبني وطناً؟!.
ليسَ الّا بحرّيّة التّعبير فقط التي تستند الى الضّمير الحي والانتماء الوطني!.
مقالات اخرى للكاتب